الدكتور وليد قصاب بعد أن انتقد الحداثة العربية العلمانية الظافرة ، عقد فصلا
كاملا لما أسماه ( الحداثة الغائبة) حيث ذهب فيه إلى أن هناك حداثة أخرى إلا أنها
مغيبة ، وتردد في تسميتها ، هل يسميها ( حداثة الأصالة) أم ( حداثة الجذور) ، هذه
الحداثة ذات توجه عربي إسلامي ولها " أنصار كثيرون ، وتمثل ضمير الجماعة
وذوقهم "[1]،
وأرجع سبب غيابها إلى هيمنة الحداثة العلمانية واستئثارها بالمنابر الإعلامية
والثقافية ، وذلك بسبب الغزو الثقافي الذي أتي يحمل معه " التنكر للعقائد، والأديان ن الجرأة
على الله والأنبياء ، كسر الأعراف والتقاليد ، الخروج على المألوف، الإتيان بكل شاذ
"[2]
فسبب- بحسب الدكتور قصاب - انتشار الحداثة
الظافرة هي مؤامرة الإعلام والشعراء وليس قبول المتلقي العربي لإنتاج أولاء
الشعراء لأنه يمثل ضميرهم ، أما شعراء الحداثة الراشدة الذين لم يعرفهم أحد فهم
الذين يمثلون ضمير الجماعة ! ويقول أن :
" الحداثة ضرورة ، ولا يقوم الفكر
والحياة إلا بها "[3]
وأن التحديث " أمرٌ واجب لا مندوحة
عنه، لأن الحداثة تعني مواكبة العصر ، والعيش فيه ، والاستجابة لتحدياته ، وهي
تعني الأخذ بأسباب العلم والحضارة لإعمار الأرض على شكل أمثل ... وهي من القوة
التي دُعِينا إلى الإعداد لها ما استطعنا"[4]
وهذه الحداثة الراشدة التي يدعو لها الدكتور قصاب وغيره من المسلمين المحافظين هي
حداثة معاكسة للحداثة المعروفة ، حيث يقول : " إن الحداثة المنشودة لمجتمعنا
العربي الإسلامي المتخلف لا يمكن أن تقوم على قيم الإلحاد والتنكر للعقاد والأديان
، واحتقار التراث الإنساني جملة وتفصيلا ، والشذوذ وغير ذلك من الأفكار الضالة
التي قبستها عن نظيرتها الغربية " [5]
هذه الحداثة المنشودة تسعى إلى " كشف مجاهيل الكون العجيب ،.. ونزع الحجب عن
أسراره الدفينة المخبأة التي تدل على الخالق في خلقه وعظمته "[6]
إذن الحداثة الرشيدة هي حداثة دينية تبين التوحيد ، وتدل المؤمنين على الله ، وهي
" ترتكز إلى قيم الحق والخير والعدل والإيمان ، وإلى تصور فكري سليم عن الكون
والحياة والإنسان "[7]،
ولئلا تكون الحداثة الراشدة سائبة قد يلعب بها اللاعبون جعل لها ركائز وملامح يجب
أن تقوم عليها وهي :
·
الحداثة
ضرورة : ولا يقوم الفكر ولا الحياة إلا بها وهي لا تتنافى مع الدين ولا مع الأعراف
الاجتماعية .
·
لا
تطول الثوابت القطعية في فكر هذه الأمة وعقيدتها ، ولا تتنكر لها أو تفرط فيها.
· لا تلغي الآخر ، ولا تغلق أبوابها دونه، بل هي منفتحة مقتبسة
منه ، لكنها لا تفعل ذلك كله مغلقة العينين مقلدا تقليدا أعمى
·
لا
تتنافى مع الأصالة ولا هي نقيض لها أو ضدها .
·
ليست
تغييرا جذريا لكل قديم سالف، ولا هي ثورة كاسحة عليه.
·
ينبغي
أن تنبع من داخل الأدب العربي ذاته ، ومن بنيته الخاصة المميزة له ، ولا يجوز أن
تفرض عليه فرضا من الخارج.
·
لا
وجود لمفاهيم (الهدم) و ( القطيعة) و ( الثورة ) و ( الخروج) و(التمرد)، في قاموس
الحداثة الراشدة "[8]
بهذه الركائز التي بناها قصاب للحداثة الراشدة يتضح لنا جليا
أنها مغايرة للحداثة القائمة ، بل مناقضة لها ، ولا تلتقي معها إلا في أشياء نادرة
مثل :(أن الحداثة ضرورة ولا تقوم الحياة والفكر إلا بها) وتلغي الحداثة الراشدة أهم قضايا الحداثة الأولى مثل : مسألة القطيعة المعرفية مع
الماضي، والتعامل مع التراث ، والتمرد ، والثورة ، وهي روح الحداثة القائمة .
الحداثة الحديدة ترى أن في التراث والثقافة ثوابت ومتغيرات ،
ويجب على المبدع والمفكر أن يتعامل مع المتغيرات دون أن يمس الثوابت بشيء ، وهذه
نقطة خلاف جوهرية مع الحداثة العلمانية التي ليس في قاموسها ثوابت ولا قيم مطلقة ،
فالثابت الوحيد هو التغيير ، وكل شيء آخر نسبي تتحكم فيه الظروف والبيئات ، أما
الحداثة الراشدة فهي تقوم على قيم مطلقة ثابتة هي " قيم الحق والخير والعدل والإيمان ، وإلى تصور
فكري سليم عن الكون والحياة والإنسان "[9]
لذلك تسعى إلى التوفيق بين التراث والأصالة من جهة والحداثة الراشدة من جهة أخرى.
[1] المرجع السلبق ،ص316
[2] المرجع السابق ،ص360
[3] المرجع السابق، ص318
[4] المرجع السابق ،ص319
[5] وليد قصاب ، خطاب الحداثة في الأدب، (الأصول
الفكرية لخطاب الحداثة في الأدب العرب)،
ص316، ص368
[6] المرجع السابق،ص319
[7] المرجع السابق،ص328
[8] المرجع السابق، ص318- 323
[9]
وليد قصاب، خطاب الحداثة
في الأدب، (الأصول الفكرية لخطاب الحداثة في الأدب العرب ،ص316،ص328
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق